ثم نفخ الله فيه من روحه فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه ، فعطس فلقاه الله رحمة به ، فقال الله : يرحمك ربك ، ثم قال الله : يا آدم . . اذهب إلى هؤلاء النفر فقل لهم ، فانظر ماذا يقولون ؟ فجاء فسلم عليهم فقالوا : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . فقال : يا آدم . . هذه تحيتك وتحية ذريتك . قال : يا رب . . وما ذريتي ؟ قال : اختر يدي يا آدم ، قال : أختار يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين ، فبسط كفه فإذا من هو كائن من ذريته في كف الرحمن ، فإذا رجال منهم أفواهم النور ، وإذا رجل يعجب آدم نوره ، قال : يا رب . . من هذا ؟ قال : ابنك داود ، قال : يا رب . . فكم جعلت له من العمر ؟ قال : جعلت له ستين ، قال : يا رب . . فأتم له من عمري حتى يكون عمره مائة سنة ، ففعل الله ذلك . وأشهد على ذلك .
فلما تقدم عمر آدم بعث الله ملك الموت ، فقال آدم : أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال له الملك : أو لم تعطها ابنك داود ؟ فجحد ذلك ، فجحدت ذريته ، ونسى فنسيت ذريته " .
وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار و الترمذي و النسائي في ( اليوم والليلة ) من حديث صفوان ابن عيسى ، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذياب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال الترمذي : حديث حسن غريب من هذا الوجه وقال النسائي : هذا حديث منكر . وقد رواه محمد بن عجلان ، عن أبيه عن أبي سعيد المقبري ، عن عبد الله بن سلام قوله .
وقوله الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد ابن أسلم ، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما خلق الله آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور ، ثم عرضهم على آدم فقال : أي رب . . من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلاً فأعجبه وبيص ما بين عينيه ، فقال : أي رب . . من هذا : قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود ، قال : رب . . وكم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة ، قال : أي رب . . زده من عمري أربعين سنة .
فلا انقضى عمر آدم جاء ملك الموت ، قال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال : أو لم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد فجحدت ذريته ، ونسى آدم فنسيت ذريته ، وخطىء آدم فخطئت ذريته " .
ثم قال الترمذي : ححسن صحيح ، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين ، وقال : صحيح على شرط مسلم . ولم يخرجاه .
وروي عن أبي حاتم من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة مرفوعاً فذكره وفيه : " ثم عرضهم على آدم فقال : يا آدم . . هؤلاء ذريتك ، وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام ، فقال آدم : يا رب . . لم فعلت هذا بذريتي ؟ قال : كي تشكر نعمتي " .
ثم ذكر قصة داود . وستأتي من رواية ابن عباس أيضاً .
وقال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا الهيثم بن خارجه ، حدثنا أبو الربيع ، عن يونس بن ميسرة ، عن أبي إدريس ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى ، فأخرج ذريته بيضاء كأنهم الدر ، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذريته سوداء كأنهم الحمم فقال للذي في يمينه : إلى الجنة ولا أبالي ، وقال للذي في كتفه اليسرى إلى النار ولا أبالي " .
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا خلف بن هشام : حدثنا الحكم بن سنان ، عن حوشب ، عن الحسن قال : خلق الله آدم حين خلقه فأخرج أهل الجنة من صحفته اليمني ، وأخرج أهل النار من صفحته اليسرى ، فألقوا على وجه الأرض ، منهم الأعمى والأصم والمبتلى . فقال آدم : يا رب .. ألا سويت بين ولدي ؟ قال : يا آدم . . إني أردت أن أشكر .
وهكذا روي عبدالرزاق عن معمر ، عن قتادة عن الحسن بنحوه .
وقد رواه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه فقال : حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا الحارث بن عبدالرحمن بن أبي ذباب . عن سعبد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس ، فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له ربه : يرحمك ربك يا آدم ، اذهب إلى أولئك الملائكة - إلى ملأ منهم جلوس - فسلم عليهم ، فقال : السلام عليكم ، فقالوا : وعليكم السلام ورحمة الله . ثم رجع إلى ربه فقال : هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم .
وقال الله ويداه مقبوضتان : اختر أيهما شئت ، فقال : اخترت يمين ربي ، وكلتا يدي ربي يمين مباركة . ثم بسطهما فإذا فيهما آدم وذريته ، فقال : أي رب . . ما هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك ، وإذا كل إنسان منهم مكتوب عمره بين عينيه ، وإذا فيهم رجل أضوؤهم - أو من أضوئهم - لم يكتب له إلا أربعون سنة ، قال : يا رب . . من هذا ؟ قال : هذا ابنك داود . وقد كتب الله عمره أربعين سنة . قال : أي رب . . زد في عمره ، فقال : ذاك الذي كتب له ، قال : فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة ، قال : أنت وذاك . اسكن الجنة .
فسكن الجنة ما شاء الله ثم هبط منها ، وكان آدم يعد لنفسه ، فأتاه ملك الموت فقال له آدم : قد عجلت ، وقد كتب لي ألف سنة . قال : بلى ، ولكنك جعلت لابنك داود منها ستين سنة ، فجحد آدم فجحدت ذريته ، ونسى فنسيت ذريته ، فيومئذ أمر بالكتاب والشهود " هذا لفظه .
وقد قال البخاري : حدثنا عبدالله بن محمد ، حدثنا عبدالرزاق ، عن معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خلق الله آدم وطوله ستون ذراعاً ، ثم قال : اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة فاستمع ما يجيبونك ، فإنها تحيتك وتحية ذريتك ، فقال : السلام عليكم ، فقالوا : السلام عليك ورحمة الله فزاده ورحمة الله . فكل من يدخل الجنة على صورة آدم ، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن " .
وهكذا رواه البخاري في كتاب الاستئذان ، عن يحيى بن جعفر ، ومسلم ، عن محمد بن رافع ، كلاهما عن عبدالرزاق به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان طول آدم ستين ذراعاً في سبع أذرع عرضاً " انفرد به أحمد .
وقال الإمام أحمد ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول من جحد آدم ، إن أول من جحد آدم ، إن أول من جحد آدم . إن الله لما خلق آدم مسح ظهره ، فأخرج منه ما هو ذارىء إلى يوم القيامة ، فجعل يعرض ذريته عليه ، فرآى فيهم رجلاً يزهر ، قال : أي رب . . من هذا ؟ قال : هذا ابنك داود ، قال : أي رب . . كم عمره . قال ستون عاماً ، قال : أي رب . . زد في عمره . قال : لا ، إلا أن أزيده من عمرك ، وكان عمر آدم ألف عام فزاده أربعين عاماً . فكتب الله عليه بذلك كتاباً وأشهد عليه الملائكة .
فلما احتضر آدم أتته الملائكة لقبضه ، قال : إنه قد بقي من عمري أربعون عاماً ، فقيل له : إنه قد وهبتها لابنك داود ، قال : ما فعلت ، وأبرز الله عليه الكتاب وشهدت عليه الملائكة" .
وقال أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف ابن مهران ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من جحد آدم - قالها ثلاث مرات - كإن الله عز وجل لما خلقه مسح ظهره فأخرج ذريته فعرضهم عليه ، فرأى فيهم رجلاً يزهر ، فقال : أي رب . . زد في عمره . قال : لا ، إلا أن تزيده أنت من عمرك ، فزاده أربعين سنة من عمره . فكتب الله عليه كتاباً وأشهد عليه الملائكة .
فلما أراد أن يقبض روحه قال : إنه بقي من أجلي أربعون سنة ، فقيل له : إنك قد جعلتها لابنك داود . قال : فجحد ، قال : فأخرج الله الكتاب ، وأقام عليه البينة ، فأتمها لداود مائة سنة ، وأتم لآدم عمره ألف سنة ". تفرد به أحمد وعلي بن زيد في حديثه نكارة .
وروى الطبراني عن علي بن عبد العزيز ، عن حجاج بن منهال ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس وغير واحد . عن الحسن قال : لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول من جحد آدم - ثلاثاً - " وذكره .
وقال الإمام مالك بن أنس في موطئه عن زيد أبي أنيسة ، أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " الآية ، فقال ابن الخطاب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال : " إن الله خلق آدم عليه السلام ، ثم مسح ظهره بيمينه فاسخرج منه ذرتيه . قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون " .
فقال رجل : يا رسول الله . . ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة . وإذا خلق الله العبد للنار ، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل أهل النار فيدخل به النار " .
وهكذا رواه الإمام أحمد ، و أبو داود ، و الترمذي ، و النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو حاتم و ابن حبان في صحيحه من طرق ، عن الإمام مالك به .
وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، ومسلم بن يسار لم يسمع عمر ، وكذا قال أبو حاتم وأبو زرعة ، زاد أبو حاتم : وبينهما نعيم بن ربيعة .
وقدر رواه أبو داود عن محمد بن مصفى ، عن بقية ، عن عمر بن جثعم ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن مسلم بن يسار ، عن نعيم بن ربيعة ، قال : كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية فذكر الحديث .
قال الحافظ الدارقطني : وقد تابع عمر بن جعثم أبو فروة بن يزيد بن سنان الرهاوي ، عن زيد بن أبي أنيسة قال : وقولهما أولي بالصواب من قول مالك رحمه الله .
وهذه الأحاديث كلها دالة على استخراجه تعالى ذرية آدم من ظهره كالذر وقسمتهم قسمين : أهل اليمين وأهل الشمال ، وقال : " هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وهؤلاء للنار ولا أبالي " .
فأما الإشهاد عليهم واستنطاقهم بالإقرار بالواحدانية ، فلم يجيء في الأحاديث الثابتة ، وتفسير الآية التي في سورة الأعراف وحملها على هذا فيه نظر كما بيناه هناك وذكرنا الأحاديث والآثار مستقصاة بأسانيدها وألفاظ متونها ، فمن أراد تحريره فليراجعه ثم . . والله أعلم .
* * *
فأما الحديث الذي رواه أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، وحدثنا جرير - يعني ابن حازم - عن كلثوم بن جبر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذريته ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلاً قال : " ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون " ".
فهو بإسناد جيد قوي على شرط مسلم ، رواه النسائي وابن جرير و الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد المروزي به . وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، إلا أنه اختلف فيه على كلثوم بن جبر ، فروي عنه مرفوعاً وموقوفاً ، وكذا روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفاً ، وهكذا رواه العوفي والوالبي والضحاك وأبو حمزة . عن ابن عباس قوله ، وهذا أكثر وأثبت . . والله أعلم .
وهكذا روي عن عبد الله بن عمر موقوفاً ومرفوعاً والموقوف أصح .
* * *
واستأنس القائلون بهذا القول - وهو أخذ الميثاق على الذرية وهم الجمهور - بما قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثني شعبة ، عن أبي عمران الجوني ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مقتدياً به ؟ قال : فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك ما هو أهو من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي شيئاً ، فأبيت إلا أن تشرك بي " . أخرجاه من حديث شعبة به .
وقال أبو جعفر الرازي : عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، في قوله تعالى : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " الآية والتي بعدها .
قال : فجمعهم له يؤمئذ جميعاً ما هو كائن منه إلى يوم القيامة ، فخلقهم ثم صورهم ثم استنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق وأشهد عليهم أنفسهم : " ألست بربكم قالوا بلى " الآية .
قال : فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم ، ألا تقولوا يوم القيامة : لم نعلم بهذا ، اسمعوا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ، ولا تشركوا بي شيئاً ، وإني سأرسل إليكم رسلاً ينذرونكم عهدي وميثاقي ، وأنزل عليكم كتابي .
قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، ولا إله لنا غيرك . فأقروا يومئذ بالطاعة .
ورفع أباهم آدم فنظر إليهم ، فرأى فيهم الغني والفقير ، وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : يا رب . . لو سويت بين عبادك ؟ فقال : إني أحببت أن أشكر .
ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور ، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة ، فهو الذي يقول الله تعالى : " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " وهو الذي يقول : " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " وفي ذلك قال : " هذا نذير من النذر الأولى " وفي ذلك قال : " وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين " .
رواه الأئمة : عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير و ابن مردويه ، في تفاسيرهم من طريق أبي جعفر ، وروى عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والسدي ، وغير واحد من علماء السلف بسياقات توافق هذه الأحاديث .
* * *
وتقدم أنه تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم ، امتثلوا كلهم الأمر الإلهي ، وامتنع إبليس من السجود له حسداً وعداوة له ، فطرده الله وأبعده وأخرجه من الحضرة الإلهية ونفاه عنها ، وأهبطه إلى الأرض طريداً ملعوناً شيطاناً رجيماً .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، ويعلي ومحمد ابنا عبيد ، قالوا : حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويله . . أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار " . ورواه مسلم من حديث وكيع وأبي معاوية عن الأعمش به .
ثم لما أسكن آدم الجنة التي أسكنها - سواء أكانت في السماء أم في الأرض على ما تقدم من الخلاف فيه - أقام بها هو وزوجته حواء عليهما السلام ، يأكلان منها رغداً حيث شاءا ، فلما أكلا من الشجرة التي نهيا عنها سلبا ما كانا فهي من اللباس وأهبطا إلى الأرض . وقد ذكرنا الإختلاف في مواضع هبوطه منها .
واختلفوا في مقدار مقامه في الجنة : فقيل بعض يوم من أيام الدنيا ، وقد قدمنا ما رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً : " وخلق آدم في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة " وتقدم أيضاً حديثه عنه . وفيه - يعني يوم الجمعة - " خلق آدم ، وفيه أخرج منها " .
فإن كان اليوم الذي خلق فيه أخرج فيه - وقلنا إن الأيام الستة كهذه الأيام - فقد لبث بعض يوم من هذه ، وفي هذا نظر وإن كان إخراجه في غير اليوم الذي خلق فيه ، أو قلنا بأن تلك الأيام مقدارها ستة آلاف سنة كما تقدم عن ابن عباس ومجاهد والضحاك ، واختاره ابن جرير ، فقد لبث هناك مدة طويلة .
قال ابن جرير : ومعلوم أنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة ، والساعة منه ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر ، فمكث مصوراً طيناً قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين سنة ، وأقام في الجنة قبل أن يهبط ثلاثاً وأربعين سنة وأربعة أشهر . . والله تعالى أعلم .
وقد روي عبد الرزاق ، عن هشام بن حسان ، عن سوار خبر عطاء بن أبي رباح : أنه كان لما أهبط رجلاه في الأرض ورأسه في السماء ، فحطه الله إلى ستين ذراعاً . وقد روى عن ابن عباس نحوه .
وفي هذا نظر ، لما تقدم من الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن " ، وهذا يقتضي أنه خلق كذلك لا أطول من ستين ذراعاً ، وأن ذريته لم يزالوا يتناقص خلقهم حتى الآن .
وذكر ابن جرير عن ابن عباس : أن الله قال : يا آدم . . إن لي حرماً بحيال عرشي . فانطلق فابن لي فيه بيتاً ، فطف به كما تطوف ملائكتي بعرشي ، وأرسل الله له ملكاً فعرفه مكانه وعلمه المناسك ، وذكر أن موضع كل خطوة خطاها آدم صارت قربة بعد ذلك .
وعنه : أن أول طعام أكله آدم في الأرض ، أن جاءه جبريل بسبع حبات من حنطة ، فقال : ما هذا ؟ قال : هذا من الشجرة التي نهيت عنها فأكلت منهاه . فقال : وما أصنع بهذا ؟ قال : ابذره في الأرض ، فبذره ، وكان كل حبة منها زنتها أزيد من مائة ألف فنبتت فحصده ثم درسه ثم ذراه ، ثم طحنة ثم عجنه ثم خبزه فأكله بعد جهد عظيم وتعب ونكد ، وذلك قوله تعالى : " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " .
وكان أول كسوتهما من شعر الضأن : جزاه ثم غزلاه ، فنسج آدم له جبة ولحواء درعاً وخماراً .
واختلفوا : هل ولد لهما بالجنة شيء من الأولاد ؟ فقيل : لم يولد لهما إلا في الأرض وقيل : بل ولد لهما فيها ، فكان قابيل وأخته ممن ولد بها . . والله أعلم .
وذكروا أنه كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى ، وأمر أن يزوج كل ابن أخت أخيه التي ولدت معه ، والآخر بالأخرى ، وهلم جرا ، ولم يكن تحل أخت لأخيها الذي ولدت معه