وقد رواه الحافظ أبو يعى الموصلي في مسنده من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : حدثنا الحارث بن مسكين المصري ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "قال موسى عليه السلام : يارب : . . أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة . فأراه آدم عليه السلام ، فقال : أنت آدم ؟ فقال له آدم : نعم . فقال : أنت الذي نفخ الله فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك الأسماء كلها ؟ قال : نعم . قال : فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟
فقال له آدم : من أنت ؟ قال : أنا موسى . قال : أنت موسى نبي بني إسرائيل ؟ أنت الذي كلمك الله من وراء الحجاب ، فلم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه ؟ قال : نعم . قال : تلومني على أمر قد سبق من الله عز وجل القضاء به قبل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى " .
ورواه أبو داود عن أحمد بن صالح المصري ، عن ابن وهب به .
قال أبو يعلي : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الملك بن الصباح المسمعي ، حدثنا عمران ، عن الرديني ، عن أبي مجلز عن يحيى بن يعمر ، عن ابن عمر عن عمر - قال أبو محمد أكبر ظني أنه رفعه - قال : " لقي آدم موسى فقال موسى لآدم : أنت أبو البشر ، أسكنك الله جنته ، وأسجد لك ملائكته . قال آدم : يا موسى : أما تجده علي مكتوباً ؟ قال : فحج آدم موسى ، فحج آدم موسى " .
وهذا الإسناد أيضاً لا بأس به . . والله أعلم .
وقد تقدم رواية الفضل بن موسى لهذا الحديث عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي سعيد ، ورواية الإمام أحمد له عن عفان ، عن حماد بن سلمة عن حميد ، عن الحسن عن رجل . قال حماد . أظنه جندب بن عبد الله البجلي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لقي آدم موسى " فذكر معناه .
* * *
وقد اختلفت مسالك الناس في هذا الحديث :
فرده قوم من القدرية لما تضمن من إثبات القدر السابق .
واحتج به قوم من الجبرية ، وهو ظاهر لهم بادي الرأي حيث قال : " فحج آدم موسى " لما احتج عليه بتقديم كتابه ، وسيأتي الجواب عن هذا .
قال آخرون : إنما حجه لأنه لامه على ذنب قد تاب منه ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له .
وقيل : إنما حجه لأنه أكبر منه وأقدم . وقيل : لأنه أبوه . وقيل : لأنهما في شريعتين متغايرتين . وقيل : لأنهما في دار البرزخ وقد انقطع التكليف فيما يزعمون .
والتحقيق : أن هذا الحديث روى بألفاظ كثيرة بعضها مروى بالمعنى وفيه نظر .
ومدار معظمها في الصحيحين وغيرهما على أنه لامه على إخراجه نفسه وذريته من الجنة ، فقال له آدم : أنا لم أخرجكم ، وإنما أخرجكم الذي رتب الإخراج علي أكلي من الشجرة ، والذي رتب ذلك وقدره وكتبه قبل أن أخلق ، هو الله عز وجل ، فأنت تلومني على أمر ليس له نسبة إلى أكثر من أني نهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها ، وكون الإخراج مترتباً على ذلك ليس من فعلي ، فأنا لم أخرجكم ولا نفسي من الجنة ، وإنما كان هذا من قدر الله وصنعه ، وله الحكمة في ذلك . فلهذا حج آدم موسى .
ومن كذب بهذا الحديث فمعاند ، لأنه متواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وناهيك به عدالة وحفظاً وإتقاناً .
ثم هو مروى عن غيره من الصحابة كما ذكرنا .
ومن تأويله بتلك التأويلات المذكورة آنفاً ، هو بعيد من اللفظ والمعنى ، وما فيها من هو أقوى مسلكاً من الجبرية .
وفيما قالوه نظر من وجوه :
أحدها : أن موسى عليه السلام لا يلوم على أمر قد تاب عنه فاعله .
الثاني : أنه قد قتل نفساً لم يؤمر بقتلها ، وقد سأل الله في ذلك بقوله : " رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له " .
الثالث : أنه لو كان الجواب عن اللوم على الذنب بالقدر المتقدم كتابته على العبد ، لا نفتح هذا لكل من ليم على أمر قد فعله ، فيحتج بالقدر السابق فينسد باب القصاص والحدود . ولو كان القدر حجة لاحتج به كل أحد على الأمر الذي ارتكبه في الأمور الكبار والصغار ، وهذا يفضي إلى لوزام فظيعة . فلهذا قال من قال من العلماء : بأن جواب آدم إنما كان إحتجاجاً بالقدر على المصيبة لا المعصية .
والله تعالى أعلم .
ذكر الأحاديث الواردة في خلق آدم عليه السلام
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ومحمد بن جعفر ، حدثنا عوف ، حدثني قسامة بن زهير ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك ، والخبيث والطيب ، والسهل والحزن وبين ذلك " .
ورواه أيضاً عن هوذة ، عن عوف ، عن قسامة بن زهير ، سمعت الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك ، والسهل والحزن وبين ذلك ، والخبيث والطيب وبين ذلك " .
وكذا وراه أبو داود و الترمذي و ابن حبان في صحيحه ، من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي ، عن قسامة بن زهير المازني البصري ، عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . قال الترمذي : حسن صحيح .
وقد ذكر السدي ، عن أبي مالك وأبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : فبعث الله عز وجل جبريل في الأرض ليأتيه بطين منها ، فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني ، فرجع ولم يأخذ ، وقال : رب . . إنها عاذت بك فأعذتها .
فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها ، فرجع فقال كما قال جبريل . فبعث ملك الموت فعاذت منه ، فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض وخلط ، ولم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة بيضاء وحمراء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين .
فصعد به فبل التراب حتى عاد طيناً لازباً . واللازب : هو الذي يلزق بعضه ببعض ، ثم قال للملائكة : " إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " .
فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه ، فخلقه بشراً ، فكان جسداً من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة ، فمرت الملائكة ففزعوا منه لما روأه ، وكان أشدهم فزعاً إبليس ، فكان يرم به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصة ، فلذلك حين يقول : " من صلصال كالفخار " ويقول : لأمر ما خلقت ، ودخل من فيه وخرج من دبره وقال للملائكة : لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوب ، لئن سلطت عليه لأهلكنه .
فلما بلغ الحين الذين يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح ، قال للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له ، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح من رأس عطس ، فقالت الملائكة : قل الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال له الله : رحمك ربك ، فلما دخلت الروح في عينه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت الروح في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة . وذلك حين يقول الله تعالى : " خلق الإنسان من عجل " " فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين " وذكر تمام القصة .
ولبعض هذا السباق شاهد من الأحاديث ، وإن كان كثير منه متلقى من الإسرائيليات .
فقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما خلق الله آدم تركه ما شاء أن يدعه ، فجعل إبليس يطيف به ، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك " .
وقال ابن حبان في صحيحه : حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما نفخ في آدم فبلغ الروح رأسه عطس ، فقال : الحمد لله رب العالمين ، فقال له تبارك وتعالى : يرحمك الله" .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يحيى بن محمد بن السكن ، حدثنا حبان بن هلال ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن عبيد الله ، عن حبيب ، عن حفص - وهو ابن عاصم بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب - عن أبي هريرة رفعه قال : " لما خلق الله آدم عطس ، فقال : الحمد لله ، فقال له ربه : رحمك بك يا آدم " .
وهذا الإسناد لا بأس به ولم يخرجوه .
وقال عمر بن عبد العزيز : لما أمرت الملائكة بالسجود كان أول من سجد منهم إسرافيل ، فآتاه الله أن كتب القرآن في جبهته . رواه ابن عساكر .
وقال الحافظ أبو يعلي : حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن إسماعيل بن رافع المقبري ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق آدم من تراب ، ثم جعله طيناً ثم تركه ، حتى إذا كان حمأً مسنوناً خلقه الله وصوره ، ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار قال : فكان إبليس يمر به فيقول : لقد خلقت لأمر عظيم